Sunday, 27 September 2009

رقائق إيمانية (8) - جميل الستر

ضيف كريم مر بنا مرور الكرام , حل كالنسيم و إرتحل كالغريب. بل هو كما قال عنه ربنا تبارك و تعالى "أياما معدودات" فهو في ظاهره شهرا كاملا كما تبين الحسابات و تكشف الأرقام و لكنه في واقعه أياما معدودات.
أتانا الضيف الكريم و معه كل الخير و كل النفع و راح و معه عتقاء مقبولين فائزين و ترك من ورائه خاسرين نادمين مطرودين..هذه هي سنة الله بين خلقه في كل عام بنفحات تعرض على بني البشر و يفطن لها العقلاء ذوي الألباب و يعرض عنها اللاهون العابثون.

سبحانه و تعالى أقام الحجة على خلقه و فتح لهم من فيض رحمته و أنوار هدايته فأفلح من زكاها و قد خاب من دساها , تقرب من تقرب و تولى من تولى.

وقفت مع نفسي في ذروة الطاعة و العبادة في العشر الأخيرة من رمضان , فنظرت لنفسي عجبا من الحالة الإيمانية التي يكون عليها المتعبدين و العاكفين و القائمين في رمضان. فلما تدبرت قليلا الأعمال الصالحة وجدت أنه على الرغم من ذلك لا تصلح أعمالا كاملة يقابل بها المرء نعم الله عليه أو على الأقل أن يدفع بها العذاب عن نفسه يوم الحساب.

على سبيل المثال إذا نظرنا للفرائض من الصلوات هل نؤيدها حقها من تركيز و خشوع و طمأنينة و سكينة؟!!
أم أننا ننشغل بأشياء أخرى و أفكار دنيوية في الصلاة!!
ثم إطمأنت نفسي قليلا حينما تذكرت أن في صلاة السنن جبر للفرائض و ربما يكون هذا من المنقذات لأعمالنا الغير كاملة. و لكن سرعان ما إضطربت نفسي عندما تبينت أنه كيف نجبر الناقص بالناقص فهل نؤدي للسنن حقها؟؟!! أين المفر؟
لحظة , و لكن هناك مخرج..
الإستغفار , نعم هو الإستغفار , الإستغفار هو الملاذ الوحيد..
همست في نفسي , و لكن هل نؤدي الإستغفار على نحو ما كان يفعله النبي صلى الله عليه و سلم مع أنه لم يكن أقل منا حسنات و لم يكن أكثر منا سيئات!!
ثم بعد صلاة مع البكاء و إزراف الدمع..قالت لي نفسي "إنظر كيف أنك خشعت هذه المرة أكثر من باقي المصلين" , و بالتالي لحظات من العجب تحبط العمل بكامله , وا حسرتاه!! إبك يا نفس على نفسك..
آه..هناك أملا آخر..الصيام و الإمتناع عن المباحات و المحرمات إبتغاء مرضات الله ..و فجأة و بدون مقدمات زارني زميل في العمل لم أكن رأيته منذ فترة و بدأنا نتحدث قليلا عن العمل ثم تطرقنا إلى الموقف الساخر الذي فعله المدير الفلاني مع الموظف الفلاني..توقفت للحظات و شعرت بالألم و الحسرة حينما إستعدت الحوار الذي دار و تصيدت ما فيه من الغيبة و النميمة..

و بعد فترة من التفكير و مراجعة شريط الذكريات و حساب النفس على ما قدمت من صالحات تشوبها الشبهات و ما فعلت من تقصير الفادح من ذنوب و آثام , تذكرت قول الله عز و جل "و لولا فضل الله عليكم و رحمته ما زكى منكم من أحد أبدا و لكن الله يزكي ما يشاء" صدق الله العظيم..
و أيضا لاح أمام عيني الحكمة التي قالها أحد الزهاد "لولا جميل ستره لم يكن عملا أهلا للقبول"
و لذلك تجد أن النبي صلى الله عليه و سلم سن لنا الإستغفار بعد الصلاة. هل الصلاة ذنب حتى نستغفر منها؟! و لكن إذا علمت أن الله ينصب وجهه لوجهك في الصلاة و أنها صلة بين العبد و ربه فلابد أنك مهما كنت من التركيز فلن تؤديها حقها.

و كذلك إذا كان أدائها على أتم وجه و أكمل هيئة كفعل النبي صلى الله عليه و سلم –و هذا من المستحيلات- فإنها ليست كفء لمقام الله عز و جل فلابد أن تستغفر بعدها أيها العبد المقصر..

فتجد أن العمل يخرج و قد لوثته النقائص وعدم الخشوع و قلة التركيز و النوايا الغير خالصة و العجب من الإحسان في العمل و النظر في أعين الخلق و سماع مدحهم لنا في العمل و ما إلى ذلك من حظ النفس في الأعمال و لا حول و لا قوة إلا بالله..

إن ستر الله علينا من نعمه الكبيرة التي لا ندرك مداها إلا يوم القيامة فإنه ستره سبحانه و تعالى قد جبر العمل الناقص و قبل قليله و رممه لنا كي ينقذنا من النار و ليس بواجب عليه . كما أنه ستر علينا في المعاصي و الذنوب و طفق يرزقنا مع عصياننا و ستر معاصينا عن أعين الناس و لو علموا ما فيها لهجرونا:

يظن الناس بي خيرا واني
لشر الخلق ان لم تعف عني

و كما قال علماؤنا إذا مدحك الناس على وجودك في الطاعة فأعلم أنهم يمدحون الستر الذي وضعه الله عليك فجمل الصورة و جبر العمل سبحانه و تعالى.

إلهي أنت أقمتنا في الطاعات و نحن لسنا أهلا لأن نقف بين يديك..
إلهي أنت أوقفتنا ندعوك في الصلاة و قد عصيناك كثيرا و أنت سترتنا كثيرا..
إلهي أنت نصبتنا في جوف الليل نقرأ من كتابك و قد لهونا و عبثنا كثيرا و تكاسلنا عن الطاعة كثيرا..
إلهي كيف نتوسل إليك بطاعة ناقصة و إخلاص مشوب و نفس بغيرك شغولة و تركيز زهيد؟؟
إلهي كيف نرجوا الدرجات العلا و نحن مكبلين بالشهوات و الملذات؟؟
إلهي كيف نأمل الفردوس الأعلى و قد خنا العهد في السر و العلن؟؟
إلهي كيف نحشر في معية النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و قد أثقلتنا الخطايا و الآثام؟؟
إلهي تتنزل في كل ليلة نزولا يليق بجلالك لتغفر الذنوب و تلبي النداءات و نحن نغط في نوم عميق و نحن العبيد و أنت الرب؟؟
من أحق أن يؤتى إيه العبد أم الرب؟؟
إلهي إرحم عبيدا لا حيلة لهم إلا حسن الظن في رب ستير!! هل يرحم العبد بعد الله من أحد!!؟؟

Monday, 21 September 2009

رقائق إيمانية (7) - علل القلوب

كل عام و أنتم بخير بمناسبة عيد الفطر..
أسأل الله تعالى أن يجعل حالنا بعد رمضان أحسن مما كنا عليه في رمضان و أن يثبتنا على طاعته..
اللهم كما أذقتنا لذة الصيام و القيام و التهجد في رمضان فلا تحرمنا بذنوبنا لذة هذه الطاعات بعد رمضان..
و إجعل القرآن خير رفيق لنا و خير معين على طاعتك و فهمنا منه الكثير و أعنا على حفظه و العمل به و قراءته على الوجه الذي يرضيك عنا...و بلغنا به جناتك و أسكنا به الغرف و أكسنا به الحلل و ارفع به عنا النقم و امح به خطايا و اكتبنا به مع النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولائك رفيقا..
اللهم إستجب دعانا بحولك و قوتك يا أرحم الراحمين.

بهذه المناسبة أذكر نفسي و إياكم بصيانة القلوب. القلب كما نعلم جميعا هو عضو من أعضاء الجسم و وظيفته هي الضخ المستمر للدم في جسم الإنسان و كذلك المحافظة على الدورة الدموية للجسد. و لسنا هنا لنتكلم عن العمل المادي أو الميكانيكي لقلب الإنسان و لكننا نتكلم عن الجانب الآخر من وظيفته أو الجانب المعنوي له.
للأسف يهتم أغلب الناس بصيانة القلب و متابعته من جانب واحد فقط و لا يعيرون الجانب الآخر إهتماما على الرغم من أنه لا يقل أهمية عن صيانة وظائفه الحيوة..

فكما يتأثر الأداء المادي للقلب بالتدخين و الإفراط في الأكل و المجهود العنيف و مؤثرات صحية أخرى , أيضا يتأثر الجانب الروحاني للقلب بالمعاصي و الفتن و الشهوات و الدنيا بصفة عامة.. و لكن أكثر الناس لا يعلمون و لو علموا لا يعملون!!!

لقد قص علينا القرآن الكريم من دعاء أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام "و لا تخزني يوم يبعثون ؛ يوم لا ينفع مال و لا بنون ؛ إلا من أتى الله بقلب سليم". فهذا يعني حتما أن هناك قلب سليم و قلب مريض , و كان بين ذلك قواما.

سؤال: هل للقلب من عطب؟؟
الإجابة: نعم..
إن القلب كعضو من أعضاء الجسد له وظيفة روحانية خلقه الله تعالى من أجلها..فالقلب السليم هو القلب الذي يتابع الله تعالى في حركاته و سكناته و هو القلب الذي يميل إلى الحق و هو القلب الذي يبغض الباطل , يرفض المعصية و يحن للطاعة , يميل لدين الله و ينفر من هوى الشيطان , يضيق صدرا بالحرام و يلين كيانه للحلال..

إنك تستطيع أن تعيش بغير أيد أو أرجل و لكنك لا تستطيع أن تحيا بدون قلب!!
و هذا هو جل قوة القلب فإن سائر الأعضاء لا تصح إلا بصحته و لا تمرض إلا لمرضه..و ذلك مصداقا لما قاله سيد الخلق صلى الله عليه و سلم :"ألا إن في الجسد مضغة ؛ إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ؛ ألا و هي القلب". إن الجوارح تتبع القلب و هي خادمة له و عاملة تحت طوعه و بكامل إرادته و تصرفه بها.
بل إن أعمال الجوارح تترجم ما للقلب من حالة ؛ فنظر العين و بطش اليدين و السعي بالقدمين و الكلام باللسان و الفكرة تمر على المخ بسلطان القلب و تحت تأثيره..

إن من أخطر ما يميز القلب أنه سريع التقلب و التبدل من حال إلى حال و لذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه و سلم "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"..
القلب سريع التغير و ربما مال قليلا للباطل ثم ما يلبث أن يعود للحق و هكذا فإن الإنسان في صراع مستمر مع قلبه لمحاولة تثبيته على طاعة الله و بالطبع بحول الله و قوته , و الله المستعان..

القلب له من الأسباب الكثير التي قد تحوله و له أيضا من المؤثرات العديدة التي قد تفقده إيمانه و سكينته..
كلما إقترف الإنسان من الذنوب و الخطايا كلما زاد تأثر القلب ثم تشوبه الشوائب إلى أن يصاب بإلف المعصية و بعدها يحب المعصية و يتفنن بها و إليعاذ بالله..

لعل الكثير منا يسمع عن إلف المعصية ؛بل إن بعضنا ذاقها بنفسه؛ عن طريق فعله لمعصية معينة و ذنب إعتاد الوقوع فيه. و من التأثير الواضح لهذا الإلف تجده في الفرق بين شعورك بالذنب في أول مرة فعلت بها الذنب و شعورك تجاه الذنب بعد فترة من الإستمرار عليه. الخشية تسلب من القلب بقدر إلف المعصية.
بل –و إليعاذ بالله- إن بعض الناس يصل إلى درجة أنه يفعل الذنب و يحسب أنه على حق و هذا من تزيين النفس و تزيين الشيطان أيضا و لا حول و لا قوة إلا بالله. قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا..
و من تأثر القلب أيضا أنه لا يستجيب إذا ذكر بالله و أنه لا يخشع لسماع آيات الله , حتى أن القلب حينما يزيد إهماله فإنه يقسو أو يطبع الله عليه و نعوذ بالله من ذلك..
قال تعالى "فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله"
و قال أيضا "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة"
و قال: "في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا"
و قال: "أولائك الذين طبع الله على قلوبهم فأصمهم و أعمى أبصارهم"
و قال :"أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"
و قال صلى الله عليه و سلم : تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة
سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مربادا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه، و قلب أبيض فلا تضره فتنة ما دامت السماوات و الأرض.

إن من العوامل التي تساعد على فساد القلوب:
الشرك بالله..
التعلق بالدنيا و فضول المباحات..
الإصرار على المعاصي..
إستصغار الذنب..
كثرة الكلام في غير طاعة..
الإكثار من مخالطة الأصدقاء..
التكاسل عن الطاعات..
آفات القلوب من الغل و الحسد و الغضب و العجب و الرياء..
و الكثير و الكثير و من يرد أن يزيد فليقرأ كتاب "طب القلوب" لإبن قيم الجوزية.

و هذا إنذار لنا جميعا:
فلنحذر إن كانت قولوبنا تميل للأغاني و لا تميل لسماع القرآن..
و لنحذر إن كانت قلوبنا تستمع بمجالسة خلطاء السوء و تمل من مجالسة الصالحين..
و لنحذر إن كانت قلوبنا تؤثر مشاهدة المباريات على حساب الصلوات الخمس..
و لنحذر إن كانت قلوبنا تنصحنا بجمع المال و تعرض بنا عن مساعدة المحتاجين..
و لنحذر إن كان حب كشف الشعر أهون على قلوبنا من إرتداء الحجاب..

لنبك على نفوسنا و لننعيها إن فسدت قلوبنا و لا نعمل على إصلاها..

و ما العلاج؟؟
العلاج هو إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم , التوبة من المعاصي , تجنب الشهوات , ترك التعلق بالدنيا , و إتيان المعروف "إن الحسنات يذهبن السيئات , ذلك ذكرى للذاكرين" و مجاهدة النفس و المثابرة على الإخلاص في كل الأعمال و ذكر الله و لا سيما القرآن الكريم..
و الله المستعان..